الشبكة العربية للأنباء
الرئيسية - اخبار اليمن و الخليج - مسارات تهريب الأفارقة لليمن.. أرقام صادمة وسوق يديرها المهربون

مسارات تهريب الأفارقة لليمن.. أرقام صادمة وسوق يديرها المهربون

الساعة 10:40 مساءً

رغم تدميره بحربٍ مستمرة منذ أكثر من عقد، يظل اليمن معبرًا رئيسيًا للهجرة المختلطة من القرن الأفريقي إلى دول الخليج.

هذا الدور ناتج عن فراغ أمني وهيكلي، وليس عن قوة تنظيمية أو قدرة استيعاب، مما حوّل السواحل اليمنية إلى بوابة مفتوحة لشبكات التهريب في ظل غياب شبه تام للدولة.

 

كشف تقرير حديث لـ"مركز الهجرة المختلطة" (MMC) عن واقع مظلم ومعطيات مروعة حول ديناميات التهريب عبر "المسار الشرقي" الممتد عبر البحر الأحمر وخليج عدن.

استند التقرير، الذي نشره موقع "نيوز يمن" الإخباري المحلي، إلى 1,645 مقابلة مباشرة مع مهاجرين بالغين وصلوا اليمن خلال العامين الماضيين في محافظتي لحج وتعز، ليقدم صورة نادرة عن الكواليس الحقيقية لهذه الرحلات.

من يحكم الطريق؟ المهرّبون أولا

يوضح التقرير أن 99% من المهاجرين اضطروا لاستخدام مهرّبين لعبور البحر والوصول إلى اليمن. أكثر من نصفهم (56%) ظلوا مع مهرّب واحد طوال الرحلة، مما يكشف عن تماسك هذه الشبكات عبر الحدود.

لكن الوجه الأكثر قسوة هو أن 99% من المهاجرين أكدوا أن المهرّب وحده يحدد مكان النزول على الساحل اليمني. المهاجر ليس أكثر من "حمولة بشرية" تُلقى حيث يرى المهرّب ربحًا أو فرصة لتفادي الدوريات الأمنية.

في خضم هذه السيطرة، يعيش المهاجرون ازدواجية مؤلمة: 54% يرون المهرّب مجرمًا يستغلهم ويعرّضهم للخطر، بينما وصفه 43% بمزوّد خدمة لا غنى عنه. هنا تتجلى المفارقة: يكره المهاجر جلاده لكنه مضطر للتمسك به، لأنه الخيار الوحيد لعبور البحر.

وثّق التقرير أيضًا أن 79% من المهاجرين تعرضوا لتضليل متعمّد. قيل للبعض إن الرحلة لن تستغرق سوى ساعات، لكنها امتدت لأيام في الصحراء دون ماء أو غذاء. أُجبر آخرون على دفع مبالغ إضافية بحجة "رسوم طارئة".

شاب إثيوبي ذكر في المقابلات: "باع والدي أرضنا ليدفع ثمن الرحلة. في البحر قالوا لنا: ادفعوا أكثر وإلا سنترككم. لم نكن نملك شيئًا. بكيت ورأيت صديقي يُلقى في الماء لأنه رفض الدفع". هذه الشهادات تجعل المهرّب ليس مجرد وسيط، بل الحاكم الفعلي للطريق، يقرّر مصير آلاف الأرواح وفق حسابات الربح والخسارة.

خرائط المسارات: من أوبوك إلى باب المندب

يبدأ المسار الشرقي عادةً من مدينة أوبوك الساحلية في جيبوتي، حيث أظهرت المقابلات أن 94% من المهاجرين استخدموا هذه النقطة كبوابة أولى نحو البحر. هناك، وفي مدن أخرى مثل دِخل وتَجُورا وجيبوتي سيتي، لا يعيش المهاجرون أجواء انتظار طبيعية، بل يُكدَّسون في أماكن مكتظة أشبه بـ"مخازن بشرية" في ظروف غير إنسانية.

تُغلق الأبواب عليهم، ويُمنعون من الخروج، ويُجبرون على الانتظار أيامًا أو أسابيع حتى يجمع المهرّبون العدد المطلوب لعبور البحر أو يحصلوا على مزيد من الأموال عبر اتصالات متواصلة مع أسر المهاجرين. هذه اللحظات المعلقة بين البحر والبر تختصر قسوة حياة المهاجرين: لا طريق للعودة، ولا يقين فيما ينتظرهم.

بعد الرحلة البحرية القصيرة لكن المميتة، تتوزع نقاط الهبوط على السواحل اليمنية: لحج استقبلت 56% من الوافدين، تعز 39%، وشبوة 5%. لكن الأرقام وحدها لا تحكي القصة كاملة.

في عام 2024، رصد التقرير تحولًا ملحوظًا من لحج إلى تعز وشبوة، ليس بدافع اختيار المهاجرين، بل كنتيجة مباشرة لـ"التكتيكات الذكية" التي تتبعها شبكات التهريب لتفادي خفر السواحل اليمني والحملات العسكرية المشتركة. بمعنى آخر، يتحكم المهرّبون بمصير آلاف البشر عبر إعادة رسم خرائط النزول كلما اشتدت الرقابة.

 

 

لخّص أحد المهاجرين الذين قابلهم الباحثون هذه المعاناة بجملة قصيرة لكنها مؤلمة: "كنا نظن أننا سنصل عدن مباشرة، لكنهم أنزلونا في مكان مظلم بتعز. قالوا لنا: هنا أكثر أمانًا. لكننا وجدنا أنفسنا في أيدي مهرّبين آخرين، واضطررنا لدفع المال من جديد." شهادة واحدة، لكنها تعكس مأساة جماعية لمئات الآلاف، حيث تتكرر دورة الاستغلال بلا نهاية: دفعٌ عند الانطلاق، دفعٌ عند النزول، ثم دفعٌ آخر لمواصلة الطريق.

اقتصاد التهريب: التضليل كـ"نموذج عمل"

يكشف تقرير مركز الهجرة المختلطة (MMC) أن اقتصاد التهريب في البحر الأحمر وخليج عدن هو منظومة ابتزاز متكاملة تُدار كـ"نموذج عمل" قائم على التضليل والمفاجآت، وليس مجرد نقل أشخاص من ضفة إلى أخرى. فالمهاجر، منذ لحظة الاتفاق الأولى، يُقدَّم له سعر وهمي يبدو مقبولًا، لكنه لا يلبث أن يتحول إلى سلسلة لا نهائية من "الدفعات الإضافية". عند كل محطة توقف – سواء في جيبوتي أو على السواحل اليمنية – يُفرض على المهاجرين دفع مبالغ جديدة تحت مسميات مختلفة: "رسوم حماية"، "تكلفة نقل"، أو "إكراميات" للمهرّبين المحليين.

محطات الانتظار في أوبوك ودِخل وتَجُورا ليست مجرد أماكن تجمع، بل تحولت إلى أسواق سوداء مالية. هناك يُحتجز المهاجرون في غرف مكتظة تُغلق أبوابها بإحكام، ويُسمح لهم فقط بإجراء اتصالات مع أسرهم لطلب تحويل الأموال. في حال تأخر الدفع، يتعرضون لعقوبات قاسية تبدأ بالحرمان من الطعام والماء، وقد تصل إلى الضرب المبرح والتهديد بالقتل.

تكشف الأرقام التي رصدها التقرير أن 79% من المهاجرين تعرضوا للتضليل المباشر فيما يخص الأسعار والظروف، وأن الغالبية دفعت مبالغ أكبر بكثير مما وُعدت به في البداية. يذهب كثير من هذه الأموال عبر قنوات تحويل غير رسمية، مما يعزز قوة شبكات التهريب ويجعلها أكثر قدرة على التوسع والالتفاف على أي محاولات للرقابة.

بهذا الشكل، يصبح اقتصاد التهريب سوقًا سوداء معولمة تربط بين أسر فقيرة في إثيوبيا أو الصومال، ومهربين في جيبوتي، وشبكات اتجار في اليمن، في دائرة مغلقة من الاستغلال المتكرر. إنها دورة جشع تستنزف كل مدخرات المهاجر وأسرته، بينما تتركه أكثر هشاشة من أي وقت مضى.

تُظهر بيانات مركز الهجرة المختلطة (MMC) أن المسار الشرقي للهجرة تحكمه بالدرجة الأولى فئة شبابية يائسة تبحث عن فرصة للنجاة أو تحسين حياتها. 99% من المهاجرين الذين شملتهم العينة رجال، ينتمي معظمهم إلى الفئة العمرية ما بين 18 و34 عامًا، وهي مرحلة عمرية يُفترض أن تكون في ذروة الإنتاج وبناء المستقبل، لكنها في بلدان القرن الإفريقي مرادفة للفقر، البطالة، والنزاعات الممتدة.

من حيث الجنسية، يشكّل الإثيوبيون 93% من العابرين، بينما يمثل الصوماليون 7%، وجيبوتي أقل من 1%. تكشف هذه التركيبة بوضوح أن إثيوبيا هي المصدر الرئيسي للمهاجرين، مدفوعة بأزمات مركّبة: صراعات داخلية، وجفاف ممتد، وفقر يضغط على المجتمعات الريفية أكثر من غيرها.

الوجهة النهائية للأغلبية واضحة: السعودية (89%)، تليها عُمان (10%)، بينما نسب ضئيلة جدًا تتطلع إلى الإمارات أو الكويت. اللافت أن 86% من المهاجرين لا ينوون الإقامة الدائمة، بل يرون هجرتهم مؤقتة بهدف العمل الموسمي أو جمع المال ثم العودة. أما الراغبون في البقاء بشكل دائم فلا يتجاوزون 10%، مما يعكس طبيعة هذه الهجرة كحل اضطراري قصير الأمد أكثر من كونه انتقالًا للاستقرار.

لكن الواقع القاسي يكشف مفارقة مؤلمة: 97% من المهاجرين لم يصلوا إلى وجهتهم بعد عند لحظة المقابلة. وجد كثيرون أنفسهم عالقين داخل اليمن، بلدٍ مثخن بالحرب والانهيار، حيث يتحولون من عابري طريق إلى ضحايا عالقين في فخاخ جديدة. ينتهي الحال ببعضهم معتقلًا أو مُعادًا قسرًا إلى بلده الأصلي، فيما يُستغل آخرون في أعمال شاقة بأجور زهيدة، أو يُجبرون على الانخراط في أنشطة غير قانونية تحت تهديد المهرّبين.

الوجهة المجهولة: ما بعد الوصول

تمثل السعودية الحلم المؤقت لمعظم المهاجرين، حيث يأملون في العثور على عمل وجمع ما يكفي من المال لإعالة أسرهم التي تركوها خلفهم في القرى الفقيرة بالقرن الإفريقي. لكن هذا الحلم محفوف بسلسلة من المخاطر تبدأ منذ لحظة النزول على السواحل اليمنية ولا تنتهي حتى داخل دول المقصد.

تشير بيانات التقرير إلى أن 13% من المهاجرين خاضوا سابقًا تجربة هجرة مماثلة، لكن الغالبية لم تتمكن من تحقيق مبتغاها. كانت العودة في 92% من الحالات قسرية: إما بطرد مباشر من دول الخليج بعد اعتقالهم بتهمة الهجرة غير النظامية، أو بترحيلهم من قِبل السلطات اليمنية بعد اعتراضهم داخل الأراضي اليمنية، أو نتيجة الاحتجاز لفترات طويلة في مراكز مكتظة وافتقارهم للموارد الأساسية.

يبرز التقرير أن هذه الأزمة لم تعد شأنًا إنسانيًا بحتًا، بل باتت مرتبطة بأمن البحر الأحمر والخليج. فكل مهاجر عالق بلا حماية هو هدف محتمل للعنف والتجنيد القسري، وكل شبكة تهريب تُترك دون مواجهة تتحول إلى كيان اقتصادي موازٍ يهدد استقرار المنطقة.