على أطراف مدينة تانغشان، المشهورة بالصناعات الثقيلة، وإنتاج الصلب قرب بكين، يقع مجمع صناعي جديد بطموحات كبيرة في جذب نخبة شركات التكنولوجيا الأكثر تطوراً إلى الصين، إلا أن المجمع، المحاط بحقول الذرة الخضراء، لا يزال شبه فارغ؛ إذ لم يستقطب سوى شركتين لصناعة قطع غيار السيارات، وشركة لتصنيع أغلفة الذخيرة، وشركة لمعدات تحصيل الرسوم الإلكترونية.
وكانت صالة الاستقبال المكسوة بالرخام مظلمة عند وصول فريق «فاينانشال تايمز»، ما يشير إلى قلة معتادة لعدد الزوار، لكن هذا لم يُثنِ عزيمة المسؤولين المحليين، الذين سارعوا لإضاءة الردهة، ليعرضوا مجسماً معمارياً كبيراً للمجمع.
وأوضح ممثل الحكومة المحلية، الذي اكتفى بتعريف نفسه باسم «تشاو»، أن هدف المشروع هو استقطاب الصناعات، التي تجسد ما يصفه الرئيس الصيني شي جين بينغ بـ«قوى الإنتاج النوعية الجديدة»، مثل مصنعي السيارات الكهربائية والبطاريات.
وأضاف أن تانغشان «تسعى للانتقال من التصنيع التقليدي إلى الصناعات ذات التقنية العالية».
وتوجد مجمعات صناعية مشابهة في مئات المدن الأصغر في جميع أنحاء الصين، ويوجّه مسؤولو الحكومات المحلية الساعين لتحقيق الأهداف المتعلقة بنمو الناتج المحلي الإجمالي استثمارات التصنيع نحو الصناعات الأكثر تفضيلاً، مثل السيارات الكهربائية، والذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والبطاريات، والألواح الشمسية، لكن الصين باتت مشبعة بمثل هذه المشروعات إلى الحد الذي دفع الرئيس شي جين بينغ للإعراب عن عدم رضاه بما تصفه بكين بـ«المنافسة السعرية المبالغ فيها».
وقال شي جين بينغ في المؤتمر المركزي للعمل الحضري، وهو اجتماع رفيع المستوى للحزب الشيوعي يركز على التنمية الحضرية: «الذكاء الاصطناعي، وقوة الحوسبة، والمركبات التي تعمل بالطاقة الجديدة.. هل يجب على جميع المقاطعات في البلاد أن تعمل على تطوير صناعات في هذه الاتجاهات؟».
وكثيراً ما حذر الاقتصاديون من أن النموذج الصيني للاستثمار الموجه من الدولة، المدفوع بالديون، ينطوي على مخاطر التخصيص غير الفعال للموارد، ويؤثر سلباً على الاستهلاك، وهو ما يعيق النمو على المدى الطويل.
رغم ذلك وبعد انفجار فقاعة العقارات عام 2021 اعتمدت الصين بشكل أكبر من أي وقت مضى على الاستثمار والتصنيع والصادرات لتحقيق النمو، بعد أن قللت الأسر، التي ترتبط معظم ثرواتها بالعقارات، إنفاقها، لكن فائض الطاقة الإنتاجية وضعف الطلب المحلي أدخلا الصين واحدة من أطول فترات الانكماش المالي منذ التسعينيات، فانخفاض الأسعار يضر بربحية الشركات، ويؤثر على دفاتر القروض لدى المصارف، ويحبط الاستثمارات الجديدة.
كما أصبحت الطاقة الصينية الفائضة أيضاً تحدياً عالمياً يواجه الشركاء التجاريين، الذين يخشون وقوع «صدمة صينية» جديدة شبيهة بطفرة الصادرات الصينية، التي شهدتها أواخر التسعينيات وأوائل الألفية الجديدة.
وتسارع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بجانب اقتصادات نامية كبرى مثل البرازيل والهند، لبناء حواجز تجارية؛ لحماية صناعاتها المتقدمة من الإغراق بالسلع منخفضة التكلفة من الصين.
وبعد أن أنكرت الصين سابقاً وجود طاقة فائضة، وشدد شي جين بينغ خلال رحلة إلى فرنسا العام الماضي، على أنه لا وجود لشيء من هذا القبيل، فإن مجلة الحزب الشيوعي لم تستخدم مصطلح (الطاقة الفائضة) إلا الشهر الماضي فحسب، بل ونشرت تحليلاً تفصيلياً لأسبابه، وهو ما أعقبه اتخاذ مجموعة تدابير في محاولة لوقف خفض الأسعار، لكن لا يبدو أن هناك نهاية في الأفق، مع استمرار ازدياد الاستثمارات الصينية في التصنيع بوتيرة فائقة، إذ ارتفعت بنسبة 7.5% هذا العام بعد صعودها 9.5% في عام 2024، وذهب يان سي، الأستاذ المساعد في قسم الاقتصاد التطبيقي بكلية قوانغهوا للإدارة في جامعة بكين، في ندوة شارك فيها مؤخراً، إلى أن حصة الصين من القيمة المضافة للتصنيع العالمي قد ترتفع إلى 40% خلال الأعوام الخمسة المقبلة من قرابة 27% حالياً.
وأوضح فريدريك نيومان، كبير خبراء الاقتصاد المتخصصين في آسيا ببنك «إتش إس بي سي»: «أعتقد أنه من المشجع أن نرى بكين وهي تقر بأن هذه مشكلة مهمة، وشيء لا يمثل صداعاً لشركاء الصين التجاريين فحسب، بل يمثل أيضاً تحديات كبيرة للاقتصاد الصيني نفسه».
وقال: «السؤال هو: ما الذي يمكن فعله على أرض الواقع على المدى القصير؟ لأنه لتخفيف التداعيات ستحتاج الصين إلى انضباط استثماري أكبر، وطلب محلي أكبر في الوقت نفسه، غير أن الأقوال دائماً أسهل من الأفعال».
وبالقرب من مجمع تشاو يقع مجمع صناعي آخر، يروج لنفسه على أنه «مركز لتكنولوجيا التصنيع المتقدمة»، وتطلب استثمارات بلغت مليار يوان صيني، إلا أنه خاوٍ أيضاً إلى حد كبير.
وقال مدير المجمع الذي تم بناؤه من أجل صناعات «القوى الإنتاج النوعية الجديدة»، إنه تم بيع نحو 75% من مساحته لشركات تصنيع معدات مكافحة الحرائق والمعدات الزراعية وغيرها، ولم تنتقل هذه الشركات بعد إلى المجمع، ويبدو أن العديد من المصانع تستخدمه لتخزين مواد البناء، بل إن الحشائش نمت في أحواض للزرع بمناطق الاستقبال الخاصة بهذه المصانع.
وتشير المصانع الفارغة لمشكلة كبيرة أخرى، وهي الاستثمار غير المنتج، ويقول الاقتصاديون إنه رغم عدم تجهيز أغلبية المباني بالماكينات، إلا أنها لا يزال يمكن احتساب المباني استثمارات في أصول تصنيع ثابتة.
وتانغشان هي واحدة من بين 40 مدينة صينية شملها تقرير جديد، أعده يوهان تشانغ، كبير الاقتصاديين في مركز الصين التابع لمجلس المؤتمرات، وهو مؤسسة بحثية مستقلة غير ربحية مقرها الولايات المتحدة، وقد وجد التقرير أن العديد من المدن الصينية الأقل حجماً تعتمد بشكل كبير على هذا النوع من الاستثمارات لتحقيق النمو الاقتصادي.
وبلغت متوسط الاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي في هذه المدن نسبة 58% العام الماضي، مقارنة بمتوسط الصين الوطني المرتفع بالفعل البالغ 40%، أما بالنسبة للدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية فإن الرقم أقرب إلى نحو 22%.