تمكن فريق بحثي دولي، للمرة الأولى من إجراء تسلسل جينومي كامل لبقايا إنسان مصري عاش في فترة محورية من تاريخ مصر الفرعونية.

تمكن فريق بحثي دولي، للمرة الأولى من إجراء تسلسل جينومي كامل لبقايا إنسان مصري عاش في فترة محورية من تاريخ مصر الفرعونية.
تم نشر هذه النتائج الرائدة في مجلة "نيتشر" بعد تحليل رفات رجل دفن داخل إناء فخاري محكم الإغلاق في قرية النويرات جنوب القاهرة، حيث تم الكشف عن مزيج غير متوقع من الأصول الجينية، وتوفر رؤى عميقة حول الروابط الحضارية لمصر القديمة وتحديداً بين عامي 2855 و2570 قبل الميلاد، وهي فترة تربط بين عصر التوحيد السياسي لمصر وبداية الدولة القديمة.
واكتُشفت المومياء، التي خضعت للدراسة، في موقع "النويرات" بالقرب من بني حسن بجنوب مصر، وكانت مدفونة داخل إناء فخاري كبير في قبر منحوت في الصخر. وهذه الطريقة في الدفن تشير إلى مكانة اجتماعية "مرموقة" للفرد.
وتبرعت مصلحة الآثار المصرية بهذه المومياء بين عامي 1902 و1904 لمعهد الآثار بجامعة ليفربول، ثم نُقلت لاحقاً إلى المتحف العالمي في ليفربول.
واجه الباحثون تحديات كبيرة في استخراج الحمض النووي بسبب الظروف المناخية الحارة والرطبة في مصر التي تسرع من تدهور المادة الوراثية. لكن التقدم التكنولوجي في تقنيات التسلسل الجيني، إلى جانب الحفظ الاستثنائي للهيكل العظمي داخل الوعاء الطيني، مكّن الفريق من تحقيق هذا الإنجاز بعد فشل محاولات سابقة، بما في ذلك تلك التي قام بها عالم الوراثة الحائز على جائزة نوبل سفانتي بابو.
استخدم العلماء تقنية متطورة تعرف باسم "تسلسل البندقية" تسمح بقراءة الجينوم الكامل من عينات متدهورة مع الحفاظ على العينات الأثرية. أوضح الدكتور لينوس جيرلاند-فلينك، المؤلف المشارك في الدراسة من جامعة أبردين، أن هذه الطريقة تتيح للباحثين المستقبليين الوصول إلى البيانات الجينية الكاملة دون الحاجة لأخذ عينات إضافية من الرفات، مما يحفظ القيمة الأثرية للعينات.
كشف التحليل الجيني أن 80% من أصول الرجل تعود إلى شمال أفريقيا القديمة، بينما تشير نسبة 20% المتبقية إلى وجود صلة وراثية بسكان غرب آسيا وبلاد ما بين النهرين. تمثل هذه النتائج أول دليل جيني ملموس على وجود روابط بشرية بين مصر القديمة ومناطق الهلال الخصيب التي تشمل اليوم العراق وإيران والأردن، وهو ما كان محل تكهنات علمية منذ فترة طويلة.
من الناحية الأنثروبولوجية، كشفت دراسة الهيكل العظمي والأسنان أن الرجل كان قصير القامة (حوالي 152 سم) بعيون وشعر بنيين وبشرة داكنة. عاش حتى سن متقدمة بالنسبة لعصره، ما بين 44 و64 عاماً، وهو ما يعادل العيش حتى الثمانينيات في العصر الحديث. أظهرت بقاياه علامات إجهاد جسدي شديد، بما في ذلك التهاب المفاصل وهشاشة العظام وتكيفات عظمية تشير إلى قضائه عقوداً في العمل الجسدي الشاق.
لاحظ الدكتور جويل آيريش، عالم أنثروبولوجيا الأسنان المشارك في الدراسة، أن الأدلة تشير إلى أن الرجل ربما عمل في صناعة الفخار، وربما استخدم عجلة الفخار التي ظهرت في مصر تقريباً في نفس الفترة الزمنية. مع ذلك، فإن الطقوس الجنائزية التي أحاطت بدفنه توحي بأنه كان حرفياً متميزاً تمكن من الارتقاء اجتماعياً بفضل مهاراته.
أكدت الدكتورة أدلين موريز جاكوبس، المؤلفة الرئيسية للدراسة من جامعة ليفربول جون مورز، أن الجمع بين البيانات الجينية والأنثروبولوجية والأثرية سمح للفريق بتكوين صورة شاملة عن حياة هذا الفرد وبيئته. وأعربت عن أملها في أن تساهم عينات إضافية في المستقبل في توضيح توقيت ومدى تأثير الهجرات من غرب آسيا على المجتمع المصري القديم.
حظيت هذه النتائج بترحيب واسع في الأوساط العلمية، حيث وصف الدكتور يوسف لازاريديس من جامعة هارفارد الاكتشاف بأنه يتوافق تماماً مع التوقعات الأثرية والجغرافية للمنطقة. وأشار إلى أن هذه النتائج تؤكد وجود مزيج سكاني في مصر القديمة بين أصول محلية وأخرى شرق أوسطية.
تمثل هذه الدراسة بداية فصل جديد في أبحاث الأصول المصرية القديمة، حيث اعتمدت الدراسات السابقة بشكل رئيسي على مومياوات من فترات لاحقة تضرر حمضها النووي بسبب مواد التحنيط الكيميائية. يفتح هذا الإنجاز الباب أمام إمكانيات جديدة لفهم التاريخ الجيني لمصر القديمة وعلاقاتها بالحضارات المجاورة عبر تحليل رفات من عصور ما قبل التحنيط.
أعرب الباحثون عن تفاؤلهم بإمكانية الكشف عن المزيد من الأسرار مع تحليل المزيد من العينات في المستقبل. قال جيرلاند-فلينك: "يمثل كل شخص عاش في الماضي - وجينومه - قطعة فريدة في أحجية التاريخ البشري"، معرباً عن أمله في أن يساهم العمل المستقبلي في سد الفجوات في فهمنا للعالم القديم.
المصدر: وكالات