يمثل الهدر الدوائي أحد التحديات الكبرى التي تواجه الأنظمة الصحية عالميًا، ويكتسب هذا التحدي في السعودية بُعدًا استراتيجيًا في ظل التوجه الوطني نحو توطين صناعة الدواء وتحقيق الكفاءة في الإنفاق الصحي، وفي ظل بيانات تكشف عن نسب هدر تصل إلى 18% محليًا، ترتفع الحاجة إلى تحرك وطني منظم يعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدواء، ويؤسس لمنظومة دوائية أكثر وعيًا، تضمن الاستخدام الأمثل وتحافظ على الموارد، ضمن رؤية تنموية شاملة يقودها القطاع الصحي بمشاركة كافة الجهات ذات العلاقة.
نسب الهدر.. بين الواقع المحلي والمؤشرات العالمية
يؤكد الدكتور ياسر العبيداء، الرئيس التنفيذي لشركة سدير للأدوية لـ"العربية.نت"، أن الهدر الدوائي في السعودية يُقدّر بنسبة تصل إلى 18%، وهي نسبة تضع المملكة ضمن المعدلات العالمية، حيث تبلغ النسبة عالميًا نحو 41% من الأدوية المنتجة سنويًا، هذه النسب تعكس التحدي الكبير المرتبط بإدارة الاستهلاك الدوائي، وتؤكد أهمية تعزيز الاستخدام الفعّال كجزء مكمل لجهود التوسع الإنتاجي ونقل التقنيات محليًا.
وأضاف: تشير البيانات المستخلصة من دراسات ميدانية إلى أن أدوية الأمراض المزمنة مثل الضغط والسكري والقلب، إلى جانب أدوية الأورام والمضادات الحيوية، تُعد من أكثر الفئات عرضة للهدر. وتُسجّل الأدوية ذات الصلاحية القصيرة، سواء المستوردة أو المحلية، نسب هدر مرتفعة بسبب محدودية فترة الاستخدام أو انتهاء الصلاحية. وتبرز أدوية الأورام بشكل خاص كأعلى فئة من حيث القيمة المالية للهدر.
الهدر عبر مراحل سلسلة الإمداد
ويبين العبيداء، يُعد الهدر الدوائي في السعودية سلوكًا معقدًا ومتعدد الأوجه، يمتد من التصنيع والتوريد، مرورًا بالتخزين والتوزيع، ووصولًا إلى الصرف والاستهلاك. ويأخذ هذا الهدر أشكالًا متنوعة مثل تراكم الأدوية في المستودعات، أو صرف كميات تفوق الحاجة، أو انتهاء صلاحية الأدوية في المنازل. كما يسهم تعدد الجهات الصحية في صرف أدوية مكررة، إضافة إلى توقف بعض المرضى عن العلاج دون استهلاك كامل الأدوية.
حلول مقترحة.. من الرقمنة إلى التوعية
ويشدد العبيداء على أن الحد من الهدر يتطلب إصلاحات متعددة تبدأ بضبط السياسات الشرائية وتنتهي بالتوعية المجتمعية. من أبرز الحلول المطروحة: تعزيز أنظمة التتبع الإلكتروني مثل "رصد"ربط الجهات الصحية بملف صحي موحد وتحديد كميات صرف الأدوية المزمنة، واستخدام التطبيقات الذكية للتذكير بالجرعات وإتاحة التبرع بالأدوية غير المستخدمة ضمن شروط السلامة وإطلاق مبادرات مثل منصة “شارك” من نوبكو لتبادل الفوائض، وخدمة "وصفتي" لتنظيم صرف الأدوية.
البعد الاستثماري والتنظيمي للهدر
من جانبه، يوضح خبير الدراسات الدوائية الدكتور سفر الشهراني لـ"العربية.نت"، أن الهدر لا يمثّل فقط إهدارًا اقتصاديًا، بل يؤثر أيضًا على فرص الاستثمار في سلاسل الإمداد وتطوير البحث العلمي، ويعكس خللًا تنظيميًا وسلوكيًا. ومع أن المقارنة الدولية صعبة بسبب اختلاف المنهجيات، إلا أن المملكة تُدرك التحدي وتسعى لمعالجته ضمن برامج التحول الصحي.
ويشير الشهراني إلى أن الهدر لا يرتبط بفئة دوائية محددة بقدر ما يتعلق بكيفية الاستخدام والتخزين. فالمشكلة تكمن في الثقافة الصحية للمجتمع وآليات صرف الدواء، مما يتطلب مبادرات توعوية وتطوير أنظمة ذكية للتوزيع، لضمان الاستخدام الرشيد وتقليص الفاقد من الدواء.
التوسع الصحي.. بين الوفرة والتخطيط
ويُبرز الشهراني أن السياسات التوسعية لتوفير الدواء قد تؤدي أحيانًا إلى توفير كميات تفوق الحاجة بسبب غياب أدوات دقيقة للتنبؤ بالاستهلاك. كما يوضح أن توزيع المسؤولية لا ينحصر في جهة واحدة؛ فالمستشفيات الحكومية بحكم حجمها تظهر فيها نسب هدر أعلى، بينما تلتزم الصيدليات الخاصة بضوابط تجارية أكثر دقة، مما يسلط الضوء على ضرورة التكامل بين القطاعين العام والخاص.
يؤكد الخبراء أن الحد من الهدر لن يتحقق بإجراء فردي، بل يتطلب منظومة متكاملة تضم الجهات التنظيمية، والمؤسسات الصحية، والمجتمع. الحل يبدأ بتطوير السياسات، وتحسين كفاءة الإمداد، وإعادة النظر في أنظمة الصرف، وصولًا إلى ترسيخ ثقافة الاستخدام الرشيد التي تنطلق من وعي المواطن بمسؤوليته تجاه الدواء.
ويلفت الشهراني إلى الاهتمام المتزايد بمبادرات الاستفادة من الأدوية غير المستخدمة، وفق أعلى معايير السلامة، ما يعكس تحولًا نحو مفهوم "إعادة التوجيه الذكي" للموارد، ضمن أطر مؤسسية منظمة، بعيدًا عن الهدر التقليدي.